تُقدم المقالة التالية دراسة مُفصّلة عن كتاب "عبد الله بن المبارك: الإمام القدوة" لمؤلفه محمد عثمان جمال، مُحللةً محتواه ومنهجيته وأهميته في السياق الإسلامي.
دراسة في كتاب: "عبد الله بن المبارك: الإمام القدوة"
يُعد كتاب "عبد الله بن المبارك: الإمام القدوة" لمؤلفه محمد عثمان جمال، دراسة وافية وشاملة لأحد أبرز أعلام الإسلام في القرون الأولى، وهو عبد الله بن المبارك (118-181 هـ)1111. لا يكتفي المؤلف بسرد سيرة هذا الإمام، بل يغوص في تفاصيل حياته العلمية والعملية، مقدمًا إياه نموذجًا متكاملًا للشخصية الإسلامية التي تجمع بين العلم والعمل، والتقوى والجهاد. يهدف الكتاب إلى إحياء سيرة السلف الصالح وتقديمها كقدوة للشباب المعاصر، مُظهرًا عظمة الإسلام من خلال حياة رجاله2.
منهجية الكتاب ومحتواه
يتبع المؤلف منهجًا تحليليًا واضحًا، مُقسمًا دراسته إلى ستة فصول رئيسية:
الفصل الأول: عصر ابن المبارك
يتناول هذا الفصل الظروف المحيطة بحياة الإمام، من الناحية السياسية والاجتماعية والعلمية3. يُشير المؤلف إلى أن ابن المبارك عاش في فترة شهدت اضطرابات سياسية عديدة في نهاية العهد الأموي وبداية العباسي، وتميزت اجتماعيًا بالعصبية القبلية، رغم أن الإسلام قد أرسى دعائم المساواة444444444. كما يبرز الفصل أن عصره كان ذهبيًا للعلم، حيث ازدهرت علوم الحديث والفقه، وكان الموالي (من غير العرب) لهم دور كبير في حمل لواء العلم55555555. يُؤكد المؤلف أن ابن المبارك، رغم كونه من الموالي، قد وصل إلى مكانة رفيعة بفضل علمه وتقواه6666.
الفصل الثاني: سيرة ابن المبارك
يُقدّم هذا الفصل نبذة عن الإمام نفسه، اسمه ونسبه، ومولده ونشأته ووفاته7. يُوضح المؤلف أن اسمه الكامل هو عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزي8. ويُبرز أن نشأته كانت في بيت صالح، حيث كان والده تقيًا ورعًا، وهو ما انعكس على شخصية الابن9999. كما يذكر أنه بدأ حياته العلمية بعد توبة خالصة من الله، بعد أن كان مولعًا باللهو في شبابه10. وقد توفي في رمضان سنة 181 هـ، عن عمر يناهز ثلاثًا وستين سنة، بعد عودته من الجهاد11111111.
الفصل الثالث: حياة ابن المبارك العلمية
هذا الفصل هو جوهر الدراسة، حيث يُسلط الضوء على مكانة ابن المبارك العلمية المتنوعة12. يصفه المؤلف بأنه كان "دائرة معارف واسعة"، فقد جمع بين الحديث والفقه والأدب والنحو والشعر13131313. كانت شهرته الأبرز في علم الحديث، حيث أجمعت طوائف العلماء على توثيقه وإمامته14. ويُبرز المؤلف شهادات كبار الأئمة فيه، كقول يحيى بن معين عنه: "ذاك أمير المؤمنين"15. كما يُشير إلى قوة حفظه ودقته في نقد الرجال والأحاديث، مما جعله مرجعًا يحتكم إليه العلماء16161616. ويستعرض المؤلف آراءه الفقهية وشيوخه وتلاميذه، مُظهرًا أنه كان من أسبق العلماء إلى تدوين الحديث وتصنيفه في أبواب مختلفة171717171717171717.
الفصل الرابع: حياة ابن المبارك العملية
يُقدّم هذا الفصل صورة متكاملة لشخصية الإمام العملية، مُبرزًا الجوانب الأخلاقية والسلوكية التي جعلته قدوة18. يُؤكد المؤلف على
زهد ابن المبارك، مُقدمًا تعريفًا حقيقيًا للزهد بأنه ليس فقرًا، بل هو فراغ القلب من الدنيا مع امتلاك المال وإنفاقه في سبيل الله191919191919191919. ويستعرض المؤلف
جهاده وبطولته، فهو كان يغزو عامًا ويحج عامًا، ويُحرض الناس على الجهاد، مُعتبرًا العبادة تحت ظلال السيوف أفضل من العكوف في المسجد20202020. كما يتحدث عن
إبائه وعزة نفسه، ورفضه لعطايا السلاطين، حتى أنه كان لا يحدث الأمراء إجلالًا للعلم212121212121212121. ويُبرز
تواضعه، وحسن خلقه، وورعه الشديد، مُقدمًا قصصًا رائعة عن كرمه وأخلاقه، مثل موقفه مع جاره اليهودي22222222222222222222222222222222.
الفصل الخامس والسادس: مكانته ووفاته
يُخصص المؤلف هذين الفصلين للحديث عن مكانة ابن المبارك بين العلماء والعامة23. يُقدم شهادات مؤثرة عن تفضيله على كثير من معاصريه، ويُورد القصة الشهيرة عن جارية هارون الرشيد التي قالت: "هذا والله الملك، لا ملك هارون الرشيد"24. ويختتم الكتاب بتفاصيل وفاته، مُشيرًا إلى أنه تُوفي وهو عائد من الجهاد، وأنه عند وفاته ضحك وقال: "لمثل هذا فليعمل العاملون"، في إشارة إلى ما أعد الله له من ثواب25.
تقييم المقالة
يُعد هذا الكتاب دراسة قيّمة وشاملة في سيرة إمام عظيم من أئمة الإسلام. يتميز بـ:
المنهجية: استعراضه لجوانب حياة الإمام المتعددة، مما يمنح القارئ صورة متكاملة لشخصيته.
التوثيق: اعتماده على مراجع تاريخية وحديثية موثوقة، مما يضفي على الدراسة مصداقية كبيرة.
الأهمية: تركيزه على الجوانب التطبيقية في حياة الإمام، مما يجعل سيرته قدوة عملية يمكن الاقتداء بها، لا مجرد قصة تاريخية.
في الختام، ينجح محمد عثمان جمال في تقديم عبد الله بن المبارك ليس كعالم ومحدث فحسب، بل كقدوة إسلامية متكاملة، تُجسد عظمة الدين وقدرته على بناء الرجال العظماء في كل زمان ومكان26.
